مجتمع

حدائق الأمس مقابر اليوم!

الكاتب: عمار الخطيب

عندما تقف على بوابتها المخلوعة ومن حولك أشجار الكينا، تشاهد قبوراً مبعثرة يمرّ من بينها طريق ضيّق لزوّارها فتعتقد أنها مقبرة لكنك تتذكر عندما تلتفت إلى ما تبقّى من معالمها أنها كانت حديقة للأطفال قبل عقدٍ من الزمن، ألعاب ينقصها الحياة ونافورة ينقصها الماء وإن وصلها الماء فلن تكون تلك الحديقة التي عرفها أطفال مخيم اللاجئين الفلسطينيين في مدينة درعا.

حديقة -(مقبرة) المخيم في مدينة درعا – نبأ

تخرج من (مقبرة) المخيم وتقطع مسافة حوالي 2 كيلو متر نحو حي طريق السد المجاور وصولاً إلى متنزه سد درعا الذي قد لا يعرفه البعض بهذا الاسم، إذ اعتاد سكان المدينة على تسميته خلال السنوات الأخيرة بـ (مقبرة السد)، ومنها إلى درعا البلد حيث حديقة الحرش التي بقيت أجزاء منها لتذكّر من يمر بجانبها أنها كانت حديقة قبل أن تمزّقها شظايا قصف طائرات النظام ومدافعه.

مقبرة السد (المتنزه) في مدينة درعا – نبأ

قرابة 10 سنوات من الحرب في سوريا خلّفت آلافاً من الأطفال لا يعرفون طريقاً لِما يُسمى في عالمهم “حديقة الألعاب” وجعلتها إلى جانب مكنسة الساحرة والبيت المصنوع من الحلوى في أحلامهم.

لم يكن من السهل تحويل حدائق الأطفال والمتنزّهات إلى مقابر للأموات أو ملاجئ للأحياء في مدينة درعا وغيرها من المدن والبلدات في المحافظة، إلى أن الحاجة لذلك وظروف الحرب كانت أقسى على الأهالي من استبدال زيارة أطفالهم للحدائق للمرح بزيارتها لقراءة سورة الفاتحة عند قبور أفراد من عائلاتهم أو أقاربهم.

كانت حديقة مخيم اللاجئين الفلسطينيين أول مقبرة مستحدثة في المدينة (عام 2012) عندما أُجبر الأهالي على دفن قتلاهم فيها بعد تعذّر دفنهم في مقبرة البحار الرئيسية بسبب التواجد العسكري وحصار المنطقة، سبق ذلك عمليات دفن في حدائق المنازل خلال هجمات قوات النظام وحصارها للأحياء في مناطق عدة بالمحافظة.

يقول محمد البكر، وهو لاجئ فلسطيني من مخيم درعا، إن الأهالي انتظروا حوالي 24 ساعة قبل أن يتم دفن الضحايا في حديقة المخيم عام 2012 بعد تعذّر محاولات نقلهم إلى المقبرة الرئيسية، ومن ثم تحوّلت إلى مقبرة رسمية لسنوات عدة.

وتابع البكر الذي شارك في أول عملية دفن بالمقبرة: “لم يكن أقسى من مشهد دفن الضحايا من الأطفال بجانب الألعاب في الحديقة التي كانوا يلعبون فيها”. وأضاف “ما تزال لعبتي الميزان والزحليقة منصوبة حتى اليوم على بُعد أمتار من القبور لكنها مهجورة وشاحبة”.

دفن طفلة قضت في قصف جوي على مخيم درعا – نبأ

وبالرغم من سيطرة النظام على المحافظة قبل أكثر من عامين إلا أنه لا توجد أي مساعي لاستحداث حدائق أو مساحات تسلية للأطفال في المناطق التي كانت تسيطر عليها المعارضة، بحسب ما يقول محمد البكر.

وعند الحدائق المندثرة لابدّ من ذكر حديقة حميدة الطاهر أو ما أصبحت تُعرف بـ “حاجز ومعتقل حميدة الطاهر” بعد تمركز قوات النظام فيها في حي السحاري بمدينة درعا، وهي الحديقة التي ارتبطت بها ذاكرة أهالي المدينة بالتعذيب فيها والقصف المدفعي منها والذي راح ضحيته العشرات بينهم أطفال.

حديقة (حاجز) حميدة الطاهر في مدينة درعا – نبأ

الحديث عن وسائل تسلية للأطفال قد يكون محل استغراب عند البعض في ظل الأزمة المعيشية الحادّة التي تخيّم على الأهالي، ويذهب آخرون إلى إدراجها ضمن وسائل الرفاهية التي أصبحت من “الزمن الفائت” وحلّ محلها الحصول على الخبز وتأمين وسيلة التدفئة.

ونقلت سنوات الحرب الكثير من الأطفال من الحدائق والمدارس إلى سوق العمل بظروف تفوق قدراتهم. في ورشات الحدادة وتصليح السيارات وبسطات بيع المحروقات تختفي من على وجوه الأطفال العاملين فيها، ملامح الرفاهية التي لم يعرفوا لها طريقاً منذ صغرهم.

توضّح كوثر المحاميد (اسم مستعار)، معلمة في مدينة درعا أن نظرة الأهالي لوسائل تسلية الأطفال على أنها عملية ترفيهية غير ضرورية، هو أمر خاطئ وفيه ظلم كبير لهم إذ أن قسم كبير من الأطفال يتلقّى معاملة قاسية بعض الشيء من ذويه على أنه شاب ويجب أن لا يلتفت للتسلية بقدر ما يجب أن يلتفت إلى مواجهة ظروف الحياة ومساعدة عائلته في تأمين المعيشة.

وأشارت المحاميد التي نشطت في مركز للدعم النفسي قبل ثلاثة سنوات، إلى أن الحرب ألقت بظروفها على جميع الفئات العمرية من السكان لكن المتضرر الأكبر منها هم الأطفال. وتابعت: “الأطفال الذين كانت أعمارهم بين السنة والخمس سنوات عام 2011، لم يعيشوا حياتهم الطبيعية وذاكرتهم مليئة بمشاهد القتل والقصف والنزوح والدمار، والتي كان من المفروض أن يكون محلّها ذكريات اللعب مع الأصدقاء ومنزل العائلة وحديقة الحي”.

وتحدث تقرير عن لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة صدر مطلع العام الجاري، عن انتهاكات جسيمة بحق الأطفال في سوريا وأنها تؤثر على أجيال كثيرة في المستقبل. وبلغ عدد الأطفال المحتاجين في سوريا أكثر من 7.5 مليون (تقرير صادر عن اليونيسيف في حزيران الماضي).

ونوّهت المعلمة كوثر إلى ضرورة توفّر بدائل عن وسائل الترفيه التي حُرم منها الأطفال بسبب الحرب، موضحة أن ذلك يتطلب مبادرات أهلية لتجهيز أماكن خاصة بالأطفال أو حتى إعادة تأهيل بعض الحدائق المهجورة دون التي تحولت منها لمقابر، وذلك في سبيل إعطاء مساحة أكبر للطفل ومنحه خصوصية المكان والوسيلة بدلاً من اللعب في الطرقات والأزقّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى