“أنظرُ إلى أمي المُقعدة نظرة العاجز” .. يستذكر طارق حصارين في درعا بينهما عقد من الزمن
يستذكر طارق ابن مدينة درعا ظروف عائلته في الحصارين اللذين يفصل بينهما عقد من الزمن:
كان أول حصار قام به النظام في 25 نيسان عام 2011 في إطار حملة عسكرية تستهدف أحياء في مدينة درعا على إثر اندلاع مظاهرات مطالبة بالحرية والكرامة، فقام النظام بزج وحدات من الجيش في محيطها وأحكم حصاره على أحياء درعا البلد والمخيم وطريق السد واعتلى القناصة الذين أسطح الأبنية المرتفعة.
عشنا في تلك الأيام دون كهرباء وانقطعت شبكة الهاتف الأرضية واللاسلكية، وبدأ الغذاء ينقص في بيوتنا، وكذلك الأمر الدواء، وأصوات الرصاص والدبابات ترعب القاطنين، كنت أخاف أيام الحصار الأول على زوجتي وأولادي الصغار الذين لم تغب عن وجوههم ملامح الرعب من آلة القتل المحيطة بنا، وكان أشد ماكنت أعانيه هو وجود والدَي المُقعدَيْن اللذيْن لا طاقة لهما على الحركة أو الوقوف، ويستعينون بأحدنا في البيت لقضاء الحاجة، كما أنهم يُعانيان أمراضاً مزمنة مثل الضغط والسكري فكانا همّي الشاغل.
انقضت أيام الحصار بدخول الجيش وقوات الأمن وشنوا حملة تفتيش للبيوت واعتقال العشرات من الأهالي، ثم تمركز الجيش في المنطقة ضمن أكثر من 20 حاجزاً عسكرياً، واستمر ذلك حتى مطلع العام 2013 حيث بدأت المعارضة بمعركة السيطرة على حواجز النظام في ما أُسمي حينها معركة “الرماح العوالي”.
كانت أيام مريرة، القصف المدفعي و الاشتباكات تحيط بنا ولم يتبقّى في الحي سوى بعض العائلات ونحن أحدها، لم يكن لي خيار إلا أن أُخرج صغاري وزوجتي ووالدَي من البيت، ساعدنا بعض الشبان في حمل والدَيْ وأخرجناهم إلى ريف درعا ومع انتقال المعارك إلى هناك، ضاقت الدنيا فينا وأصبحت العائلات تلجأ إلى الأردن، فكان الرأي أن نذهب إلى هناك فلا يوجد لدينا أي سبيل، لكن كيف سأذهب بوالدَي المُقعدين إلى مخيمات اللجوء؟ وماذا إن أبقيتُ زوجتي وأولادي كيف سأشاهد وجوهم والرعب والقتل يخيم على المنطقة! فاتفقنا أن تخرج زوجتي وأولادي الصغار وأبقى مع والدَي المُقعدَيْن.
وبعد خروجهم وسيطرة الجيش الحر آنذاك على الحي الذي كنت أسكن فيه في درعا البلد، قررت العودة إلى بيتي الذي لحقه بعض الضرر، وبقينا نسكن فيه تحت رحمة القصف وصواريخ الفيل وبراميل الطائرات التي صدّعت جدران منزلنا وصدّعت معها قلوبنا.
أحياناً تجذبني سبابة التشهد عند أمي أو أبي عند سماع صوت الطيران الحربي أو البراميل المتفجرة وهم يتمتمون بالدعاء بصوت خافت.
توفي أبي بسكتة قلبية قبل نحو أربع سنوات وبقيت أمي التي أوجعها فراق والدي فأصبحت تعجز عن القيام بأي شيء وبعدها أرجعت زوجتي وأولادي من الأردن بعد اتفاق التسوية في درعا مباشرة ليساعدوني في رعاية أمي، ولعل أصوات المدافع والطائرات تكون قد سكنت.
لكن اليوم يُفرض علينا حصاراً جديداً لكن لم يكن بالحسبان والدتي المقعدة العاجزة التي أصابتها نوبة قلبية وحالة من ارتفاع الضغط بعد منتصف الليل قبل أيام عدة، أنظر إلى أمي نظرة العاجز بسبب عدم تمكّني من إسعافها فوراَ بسبب إغلاق قوات النظام للطريق المؤدي إلى مشفى درعا الوطني.
كنت أتخوّف من أن أودع أمي العاجزة وأنا أنظر إليها بنظرات العاجز، إنه القهر والعجز والألم الذي يفرضونه علينا.
اتصلت زوجتي بزوجة طبيب يقيم في درعا البلد فجاء إلينا مسرعاً في ساعة متأخرة من الليل ومعه بعض الأدوية والمستلزمات ما ساعد على استقرار حالة والدتي بعد نحو ساعتين من التعب الشديد.
لقد عادت بي الذاكرة مجدداً إلى المعاناة والألم الذي كنت أعيشه قبل 10 سنوات وكأنه الإعادة لكن الأمر الوحيد الذي اختلف اليوم هو عدم وجود والدي.