في نقد الذهنية الحورانية
محمد العويد
اتفق أبناء حوران على تاريخ بدء الثورة ضد الأسد، لكنّهم تفرّقوا في كلّ التفاصيل اللاحقة، مشاريع إغاثية، فصائل، قادة الداخل وضباط الخارج، يسارهم وسنوات اعتقاله، شبابهم ورفضهم لأي قراءة مغايرة لتجربته،
لم تكن تجربة الإسلام المعتدل- كسمة بحوران- كفيلة بتوحيد الصف والإرادة والتمثيل والموقف، ولم تكن العائلة الواحدة الكبيرة سوى شعاراً سرعان ما انهار بعد محاولاتٍ لتسويقه.
وحدها سجون الأسد وحّدتْ حجم مصابهم، فاعتقلت كبيرهم وصغيرهم، يسارييهم، ومعتدليهم، وهجرّتهم جميعاً في المنافي، ووصمتهم بأقذر العبارات وأقساها، لتمنع عودتهم حتى الآن.
رحم الله النائب خليل الرفاعي، كنّا قد أطلقنا تجربة صحيفة”صدى الجنوب” ٢٠٠٨ محلية في درعا، بمساهمة منه وبعض رجال حوران، تذكّرتهُ وهو يقول لي :”بدنا وقت، والتجربة غير مشجعة”، عاندته وكنت أزور رجال أعمال “أتوسلهم” دعم التجربة بالإعلان أو الدعم باعتبارها أوّل تجربة إعلامية في حوران، ولكنّ الهوى الدمشقي وسلطته، كان أقوى من عواطفنا، لينتهي مصيرها بعد شهور .
تتشابه الذهنية الحورانية، كمثيلاتها في عموم البلاد السورية، فقد أنهى نظام البعث فكرة المؤسسات المجتمعية، المساهمة والتشاركية، والمدنية، واستبدلها بأخرى قسرية في العلاقة الجبرية، لكن رغم العقم أفرزت السنوات خارج إطار الدولة مؤسسات عائلية في مدن التجارة كدمشق والصناعة كحلب، فيما بقي تأثير العقلية “الفردية” سائداً في الجنوب مع استثناءات لا تُذكر، ونجحت مشاريع فردية خارج المحافظة، ولكنّها لم تتحول للجماعية رغم توفر المناخ المساعد .
كثيرة هي القوى التي لعبت على الفُرقة، ولكن في تجربة السويداء وإجماعها على شيخ الكرامة ما يدحض نظرية المؤامرة، ومثلها لدى مكونات سورية أخرى، فيما آثرت الذهنية الحورانية فرديتها حتى في بلاد الاغتراب ودول اللجوء.
في تجارب التجمعات السياسية” عينك ومد النظر” قادة وكفاءات، وأبناء شارعٍ واحد، وهدف واحد، وإذا سألت لماذا لا تتوحّدا بتجمّع واحد؟.
يباغتك جواب الدبلوماسية: ” التعددية نجاح التجربة الديمقراطية” ليخفي خلفه واقع التشرذم، وكأنّنا أمام مباريات لدوري من الدرجة الخامسة، نسبة المهجرين الإعلاميين من حوران هي الأعلى، وهنا يحضرُ السؤال مجدّداً لماذا لم ينتج مؤسسة واحدة، تخدم أهلها، تقدم عناوينها، تحلّل أو ترصد، تحقّق أو تستقصي، لا تنحاز ولا تمارس سياسة مع وضد؟ هنا تسمع كل الأجوبة النظرية و”الماورائية” تسمع كل شيء باستثناء نقد الذهنية الفردية، و أخشى أن أقول ” الانقياد” لوهم الأقوى والمركز .
محاولتي في نقد الذهنية ليس جلداً للذات بل محاولة لمكاشفةٍ قد تؤسّس لانفتاح يُمكّن المحلي ويقوّي العام السوري،
علينا الاعتراف إن نظام الأسد الذي نحاربه نجح في الإبقاء على مؤسّسات تمثيلية سواء في الحزب أو مجلس الشعب، أو المنظمات، فيما فشلْنا بكلِّ مؤسسة تمثيلية، هذا يهدّد قواعد الانتماء للثورة واستمرارها، الناس لهم الظاهرُ أمامهم ولا تعنيهم كثيراً قواعد الاشتباك اليومي .
لم يَعد كثيرٌ من الترف أمام هذه الذهنية”الرخوة” فخياراتها تزداد صعوبة، بالتلاشي والذوبان و”خربطة” حتى باللهجة المحكية، وصولاً لتناقضاتها، تبعاً لهواها والغوايات المحيطة بها، وتزداد تحدياتها مع انتشارها تهجيراً في أرجاء المعمورة، وأخشى ألا يكون هناك قاسماً مشتركاً بينها في القريب العاجل.
ليس المطلوب حالة انغلاق أو تطبيق قواعد الولاء العمياء، والعصبية البغيضة، لكن أقله الحفاظ على هوية بشرية لها مقومات النجاح إن تضافرت جهودها ، أمام عموم الشارع السوري، ولتحتفظ بخلافاتها المحقة والطبيعية وتُنهي ذهنية الشكل المنتمي بغياب المضامين الواقعية والواجبة.
العمل الجماعي صعب، حتى في المجتمعات المستقرة، والتطوّع بلا مقابل أكثر صعوبة، لذا في خفايا العمل التطوعي في الغرب دائماً ثمّة محفّزات توازن بين رغبات الفرد “الأنانية”من جهة و تشجيعه على الجماعي وتقويته ببعض المخفزات من جهة أخرى، هذه بديهيات، الاستثناء الذي يُؤسّسُ عليه حجم المخاطر في الحالة الحورانية هو الدافع الأقوى، صفر محفزات، صفر عناصر التقوية، صفر تشجيع.
لكن ترسيخ قناعة أن كرّة الموت تأكلنا جميعاً في الداخل والمهجر، تفرض العمل الجماعي، إنها تشبه “البلم” نغرق جميعاً أو ننجو معاً، وفي القواعد الموروثة ” الفرح والعزاء لا يقوم به إلا أهله”
الواجبات كثيرة فلا تنسوا مخيمات أهليكم وتمثيلها، ولا تتجاوزا أحبتكم في الخليج فتعذروهم، ولا في تركيا وحساباتها، ولا في أوروبا ومتغيراتها، أو أرض أهليكم وجرحهم المتقيح.
نهاية: بعروبتي إن تجمّعتم وانتخبتم ومأسستم فلن يكون وزنكم في المعادلة السورية ك”بيضة القبان” وإن بقي حالكم يمثّل”كبر الرأس” فعليكم وعلى أحلامكم السلام .