إعاقات الحرب.. أفق مظلمة وبقاء على قيد الأمل
تبذل الحاجة أم عمار كل ما في وسعها لحمل عمار من الكرسي إلى فراشه، لكن كل محاولاتها فشلت، ليس أنها لم تبذل الجهد الكافي، لكن قواها وهنت، كانت سابقاً تجلس قبالته وتعطيه ظهرها وتمرر يديه أمام أكتافها فتقوم بصعوبة وتنجح في حمله، لكن ظهرها لم يعد يقوى على النهوض بها، فكيف يحمل ابنها المشلول ذي السابعة والعشرين ربيعاً.
تخشى أن تُخطئ في طريقة حمله فيسقط على الأرض، وتخشى أن تبعث محاولاتها المتكررة في نفس عمار الحزن والأسى على هذا الكد الذي سببه لوالدته الخمسينية، يسعفها الحل الذي غفلت عنه، تقرب الكرسي المتحرك إلى جانب السرير الطبي الذين تبرع لهم بهما فاعل خير، ترفع قدمي عمار وتمددها على الفراش، ثم تحرك الكرسي بزاوية 75 درجة، وتجتهد مرة في سحب قدمي عمار من القدمين، ومرة في حمله من خاصرته حتى تمكنت من وضعه على الفراش.
تلتقط أنفاسها بسرعة، وهي تفكر “أثناء وضع الغطاء على جسد عمار الهزيل” في محمد، كان عليه أن يخبرها أنه سيذهب للعمل في الدكّان هذا المساء قبل أن يساعدها بحمل عمار إلى الكرسي، وسرعان ما تنسى أمر الكرسي وتتذكر محمد، ابنها اليافع الذي يعمل في ورشة ألمنيوم، ويناوب أحياناً في بقالة جارهم أبو منصور حتى منتصف الليل، ليُعيل أمّه وأخاه العاجزيَن، تُحكم طي الغطاء أسفل قدمي عمار حتى لا يتسرّب إليه البرد وهي تتمتم بكلمات من الدعاء له ولأخيه.
قصة مقتضبة من حياة أم عمار اليومية ترويها لنا بعد سؤالنا عن عمار وقصة إصابته وظرفهم حياتهم، لم يكن شلل عمار خلقياً تقول والدته، لكنه ناجم عن إصابة تعرض لها عام 2013م إثر شظية اخترقت جسده وأصابت النخاع الشوكي العنقي في عموده الفقري فأحدثت له شللاً دماغياً.
شارك عمار يومها في احتجاج شعبي لأبناء مدينة درعا، ولم يكن يدرك خلال هتافه بالحرية أنّ هناك قذيفة هاون تتحضر للإطلاق من الملعب لتسلب منه حرية الحركة طيلة عمره، تختتم أمه الحديث بدعاء “الله يشل إديهم مثل ما شلوا ابني”.
في المحافظة الجنوبية، التي خاضت عشرات المعارك وتلقّت آلاف القذائف خلال السنوات القليلة الماضية، تتكرر صورة عمار وتتباين في شحوبها، شبابٌ بأطرافٍ مبتورة وأجسادٍ مشلولة تحاصرهم الجدران والآلام، وتثقلهم جهود أسرهم في تأمين الرعاية والدواء والغذاء لهم.
في شوارع المدينة المتعرجة بفعل الحرب، يسير أحمد بشكل متعرج هو الآخر، لا يبدو أن عكازه المعدني مصمم للسير على هذه الطرقات، ومع ذلك يحاول أن يمضي في طريقه على قدم وعكّاز.
كان أحمد في الثامنة عشر من عمره، عندما داست قدمه على أحد القنابل العنقودية خلال عمله في أحد المزارع المجاورة لمدينة درعا لقطف محصول الزيتون لقاء راتب زهيد، انفجرت القنبلة وسقط على إثرها أحمد فاقداً القدرة على الرؤية والحركة، وحده صوت الانفجار بقي يتردد في أذنه طوال رحلة إسعافه حتى فقد وعيه، وعندما استيقظ أخيراً لم يجد ساقه!
“لقد وعدني الأطباء بطرف صناعي عندما تحين الفرصة” يباغتنا أحمد الذي بدى أنه يرغب باجتياز ظروف إصابته، ويتابع مازحاً “وما مشكلة العكاز! على الأقل هو يقوي عضلات يدي مجاناً”.
الأهالي يدركون أنَّ الحصول على أطراف صناعية في بلاد لا تزال تعيش الحرب، ويأكلها الفساد، وتتراكم فيها الأطراف المبتورة، أقرب إلى المستحيل، لكن أحداً لم يكن ليخبر أحمد وأقرانه الذين يمضون ليلهم في تصفح مراكز الأطراف الصناعية ومشاهدة قصص من ركبّوها وتمرنوا عليها حتى ألفوها، أن هذا الحلم ربما لا يتحقق!.
تقريرٌ صادر عن منظمة الصحة العالمية ومنظمة هانديكاب انترناشونال عام 2018م أظهر أنَّ عدد الأشخاص الذين تعرضوا لبتر في أحد الأطراف جراء الحرب في سورية وصل إلى 86 ألف شخص، كما يعاني 1.5 مليون شخص من إعاقات مستديمة.
وقد أظهر تصريح لرئيس رابطة الأطباء الدوليين، مولود يورت سفن، يعود إلى عام 2018م، أنَّ نسب الإصابات وبتر الأطراف في سوريا هي الأكبر في العالم كله منذ الحرب العالمية الثانية.
لم يقرأ الأهالي هذه الإحصائيات بالغالب، لكن الصورة تغني عن ألف بيان، ففي شوارع المدينة المحطمة، وتحت وطأة الشمس الحارقة، ظلالٌ مشوهة لأجساد غرست بها الحرب أنيابها، ونهشت بعظامها الأسياخ المعدنية، ومشاهدُ ألفها الناظرون، عكاكيز فضية، ملابس قطنية فارغة من اللحم والعظام حتى الأكواع والركب، عيونٌ منطفئة، أصابعُ مختزلة، أبدان محروقة، ووجوهٌ مطرَّزة.
الطبيب محمد سلام، يشيرُ إلى أنَّ هذا الواقع الصعب الذي تمرّ به البلاد، تعيشه محافظات جنوب سوريا بصورة أقسى لأنها تفتقر إلى أي مبادرات محلية تدعم معاقي الحرب في سوريا كما يحصل في مناطق الشمال السوري.
ويستدرك بقوله، في الواقع فإنَّ جميع الجهود المبذولة في هذا الملف خجولة وغير مؤثرة، والحالُ أنّ مساعدة مصابي الحرب في سوريا تتطلّب جهوداً دولية كبيرة وإمكانيات تمويل ضخمة.
ويقول يوسف الزعبي، أحد مبتوري الأطراف جراء الحرب في سوريا، لم أكن لأحصل على طرف صناعي وعناية صحيّة مناسبة لولا وصولي إلى أوروبا عبر البحار.
ويرى يوسف أنَّ العلاج والرعاية ومستقبل ذوي الإعاقة غير ممكن في سوريا ولا في الدول المجاورة لها، وأنَّ إمكانية تلّقي العلاج الجاد تتوفر فقط لمن تتيح له الظروف والإمكانيات الخروج إلى أحد الدول الأجنبية.
أحمد الذي لم تتحيَّن له فرصة مغادرة سوريا، يعبّر عن ذلك بطريقة مختلفة “لا أفكر كثيراً في المستقبل، أدرك أنه طالما استمرت الحرب في سوريا، فخياراتي محدودة، وخلاصي مرهون بخلاص البلاد، كل ما أطمح إليه، البقاء على قيد الأمل”.