“الطبيخ المليحي”.. كيف أصبحت الأكلة الشعبية أقل انتشاراً في درعا؟
"تصل تكلفة منسف الطبيخ المليحي الواحد اليوم إلى ما لا يقل عن 65 ألف ليرة سورية ما يعني أن العائلة محدودة الدخل تحتاج إلى تسخير راتب الشهر لوجبة غداء واحدة فقط"
نبأ| عثمان جاد الله
تكاد بعض العائلات في درعا جنوبي سوريا تنسى “الطبيخ المليحي” وهو الطبق الشعبي الأكثر شهرة في المحافظة بسبب تكلفته التي تساوي راتب شهر كامل لموظف في مؤسسة حكومية.
حافظ هذا الطبق على شكله المعروف محلياً بالبرغل “المعجّن” مكلّلاً بلحم الخاروف ومحاطاً بالكبة ومدموجاً بالجميد المطبوخ وأخيراً يُضاف له السمن العربي وهو الأبرز في هذا الطبق وعادةَ يأكله الناس باليد وكان يُقدّم في المناسبات بالمناسف المصنوعة من النحاس، كان هذا في الماضي.
لكن اليوم وعند الكثير من العائلات في المحافظة اختفى هذا الطبق عن على موائدهم واختلف عند البعض من حيث المضمون والشكل قليلاً بسبب التكلفة الباهظة في ظل الأزمة المعيشية التي تُخيّم على سوريا منذ سنوات.
يصف الطبّاخ عدنان المحاميد، الطبيخ المليحي بـ “الأكلة الصعبة” نظراً لعجز قسم كبير من الأهالي عن تقديمه على موائدهم لعدم قدرتهم على شراء مكوّناته.
“تصل تكلفة منسف الطبيخ المليحي الواحد اليوم إلى ما لا يقل عن 65 ألف ليرة سورية ما يعني أن العائلة محدودة الدخل تحتاج إلى تسخير راتب الشهر لوجبة غداء واحدة فقط”.
يمكن القول إن الأكلة الشعبية الأكثر انتشاراً في جنوب سورياً (في الماضي) أصبحت الأقل انتشاراً في الحاضر وهذا يعني أن الأزمة المعيشية أجبرت معظم الأهالي على الاستغناء عن طبقهم الرئيسي الذي لم يغب عن موائد المناسبات وارتبط بثقافة المنطقة وتقاليدها على مدار سنوات طويلة.
يضيف المتحدث السابق أن بعض العائلات حافظت على الطبيخ المليحي على موائدها بالرغم من ظروفهم المعيشية باستبدال بعض مكوناته بأخرى أقل تكلفة.
“اليوم يختفي لحم الخاروف عن الطبق وحلّ محلّه الدجاج وبكمية قليلة لا تتجاوز 2 كيلو للعائلة كما حلّ اللبن العادي بديلاً عن الجميد أما السمن العربي الذي يُصنع محلياً إما استُغني عنه بشكل كامل أو استُبدل بالسمن الحيواني الصناعي”.
يقول أبو مهدي الحريري، وهو مهندس متقاعد إن الظروف المعيشية أثّرت بشكل كبير على ملامح الحياة بما فيها المائدة السورية وجعلت كل شيء من الذكريات ومن بينها الطبيخ المليحي.
وتابع قائلاً: “منسف المليحي اليوم لا يشبه المنسف الذي عرفناه قديماً فالذي يميّز هذه الأكلة هو السمن العربي فإن وجد اليوم في بعض المنازل فلا يتجاوز مقداره ملعقة أو ملعقتين على المنسف”.
ومضى قائلاً: “مجرّد ذكر كلمة الطبيخ المليحي في جلسة العائلة أو بين الأصدقاء والجيران يتحوّل الحديث إلى استذكاره في الزمن الماضي وحتى أن البعض يتمنى أن يجلس أمام منسف يشابهه في نفس اللحظة”.
وبالرغم من قلّة مقاديره وخطواته المعدودة إلا أن الكثير من أهالي درعا ينظرون له على أنه فريد بطعمه وغياب عنصر من المكوّنات يعني غياب الطعم المتكامل لهذا الطبق.
لذلك قد ينزعج البعض وخاصة المسنين من غياب السمن العربي أو الجميد عن الطبق بشكل يخالف ما اعتادوا عليه في الماضي، كما يقول الحريري. وأضاف: “غياب المليحي يعني غياب عناصر أساسية عن موائد الكثير من العائلات مثل اللحم الذي وصل سعر الكيلو منه إلى 22 ألف ليرة وأصبح يأتي للمنزل مرة أو مرتين في السنة في عيد الأضحى أو عند وجود مناسبة لقريب أو من الجيران”.
اشتهر الطبق في مناطق عدة في سوريا ودول عربية وأجنبية وصل إليها السوريون مثل مصر وألمانيا وأصبح فيها الطبيخ طبق معروف عند غير السوريين ويُعرف فيها بـ “المليحي الدرعاوي” نسبة إلى محافظة درعا.
لكن هذا لا يعني أن كثير من أبناء المحافظة الذين اضطروا إلى مغادرة بلادهم بسبب الحرب، يمكنهم الوصول بسهولة إلى وجبتهم المفضّلة، فمنهم من مضى على آخر مرة أكل فيها الطبيخ المليحي خمس سنوات، كما هو حال أحمد المفعلاني المقيم في ألمانيا.
يقول أحمد: “أتذكر في الشهر الأخير من وجودي في سوريا أكلت الطبيخ المليحي في منزل جدّي وكان غداء للعائلة وما زلت أتذكر التفاصيل وحتى طعمه والبصل البلدي الذي كان بجانبه وكانت هذه آخر مرة أكلت فيها المليحي إلى الآن”.
“العديد من الأكلات الشعبية التي كان يُحجز لها أيام في الشهر عند كل عائلة أصبحت اليوم أماني عند الكثير وخاصة الشبّان الذين هاجروا دون عائلاتهم”.
واختتم قائلاً: “حجم المعاناة يتضح من بساطة الأمنيات والآمال فلا نستغرب عندما تكون أمنية سوري أن يأكل شيء ما من فعل يدي أمّه”.