أشعر أن أمي غادرتني وستموت قريباً!
كلمات قد قالها يوماً من عاش غريباً في غربة الحرب، دون أهل ودون أرض
التحق حسن ابن محافظة حمص في صفوف الخدمة الإلزامية قبل اندلاع الثورة كحال الكثير من الشباب السوري قبل الثورة مجبراً، اندلعت الثورة في أشهر خدمته الأخيرة حيث كان مجنداً في ريف دمشق الشرقي الذي شهد آنذاك مظاهرات سلمية، وفيما بعد نزول الجيش إلى شوارع المدن واقتحامها، اضطر حسن إلى الانشقاق عن الجيش بعدما زُج به ورفاقه للتصدي للحراك السلمي، ليلتحق بإحدى الفصائل المقاتلة في الريف الدمشقي فيما بعد ، وكان أخوه خالد يعيش حالة مشابهة له حيث انشقّ الآخر عن الجيش في مكان خدمته في بلدة النعيمة في محافظة درعا، وليلتحق أيضا بالثوار المقاتلين هناك.
في الطرف المقابل كان ذويهم يعيشون في مدينة الرستن التي كانت ماتزال تحت سيطرة النظام، وكانت دوريات الأمن العسكري تستجوب أباهم كثيراً عنهم، ليخبرهم أنهم في عداد المفقودين ولا علم له بهما.
بقي حسن في تواصل دائم مع أخيه حتى انقطعت أخباره عنه، ليقرر بعد ذلك أن يتوجه لدرعا ويجلب خبرا عن أخيه الأصغر، توجه من غوطة دمشق إلى منطقة اللجاة حيث كانت الطرق الترابية والخطرة، ليلتقي بعناصر من كتيبة قيس القطاعنة ونصحه أن يبقى عنده لأن الريف الحوراني لم يكن محرراً كاملاً، بقي هناك وعمل معه في أغلب معارك حوران، ويتتبع ويسأل عن أخيه حتى علم فيما بعد باستشهاده، في إحدى معارك بلدة النعيمة.
شارك حسن في الكثير من معارك تحرير المحافظة، لينتقل فيما بعد إلى درعا البلد بعد مشاركته في تحرير منطقة الصوامع، عاش فيها ما يقارب خمس سنوات، مرت عليه كما تمر الأيام الأثقال على المغترب، يحن فيها إلى أبيه الذي تجاوز السبعين من العمر، وكأس الشاي الأحمر القاتم وسكارته الطويلة وجلسته أمام بيته عند كل صباح ومساء، ووجه أمه الذي بدأت التجاعيد تظهر فيه، ودعواتها له عند خروجه من البيت، وأخوته الثلاثة الصغار، تروي كل هذه المعاناة جلساته الكئيبة وحده، وعتاباته وأهازيجه الحزينة التي تحن إلى الأهل والجيران والحي، ابتدأ التواصل ذات يوم مع أهله بعد انقطاع طويل وبعد أن ركدت بعض جبهات المدن وخروجها عن سيطرة النظام، يروي حسن ما هو أشد وقعاً عليه كيف سيخبر أهله باستشهاد أخيه حيث لا قدرة له بذلك، فكان الحل هو التأخير ليسمع صوتهم في كل مرة دون حزنهم عليه، لكن في النهاية لا مفر لأنهم في كل مرة يقولون له: “دير بالك على أخوك” بعدما أخبرهم أنه في حوران، لكنه فيما بعد لابد من إخبارهم الحقيقة، فحينها لم يتمالك نفسه وأبوه، وصوت بكاء أمه يقول: “سمعته ولا أدري أهو قلب الأم استشعر بموت أخي أم أحسّتْ أن كرباً ألمّ بأحدنا! “.
“ليتني كنت قريبا فأمسح تلك الدمعات على وجنات أبي وأمي، وأصبرهم بمثواه، لكنهم أنهوا حديثهم معي قائلين: دير بالك على حالك”.
تكثّفت الاتصالات والتواصل مع أهله، ومن ثم تزوج ورُزق بطفلة صغيرة كالبدر جمالاً، يبني بيته وأحلامه في عودته إلى حمص، سيرجع يوماً عيالاً بعدما خرج فرداً، وكيف سيستقبل والداه أحفادهم الصغار.
في اتصال هاتفي نسّقت معه أمه أنها ستأتي لزيارته إلى درعا، اجتازت الحواجز والمدن التي تخضع لسيطرة النظام مع كل التضيق عليها خلال توجهها إلى محافظة درعا، وتقول لهم في كل مرة أنها ستزور ابنتها المتزوجة في درعا.
حتى كان اللقاء..
لقاء الأم بفلذة كبدها بعد أربع سنوات من الموت والخطر، لقاء تخلله دمعات الشوق والحنين، والحزن على أخيه، لقاء حمل سلامات وريحة الأب والأخوة لحسن، لقاء سيتبعه فراقٌ أحسّ به حسن، وربما والدة حسن قبل أوانه.
بعد زيارة أمه له لمدة أسبوع تقريباً تقرر العودة إلى حمص تودع حسن في ذلك اليوم، وهو وداع النهاية الذي لا لقاء بعده، يجلس حسن في يومها بعد سفر أمه كئيباً حزيناً، يواسونه أصحابه ظناً منهم أنه حزين على سفر أمه بعدما تعود على مرآها، يقولون له: “لا تحزن يا حسن فأمك قد عرفت الطريق وعرفت بيتك ستزورك مرة أخرى”. فيجيب حسن: “أشعر أن أمي ستموت وأن لقائي بها هذا هو الأخير”، أُغلقَ الحديث في مواساةٍ وأمل باللقاء التالي، حتى يأتي مساء ذلك اليوم، وتصيبه شظايا قذيفة مدفعية في إحدى الطرقات وترديه شهيداً مخلفاً ورائه طفلته التي لم تكمل السنة من عمرها، ومخلفا قبلات الوداع لأمه وسلاماته التي بعثها لأهله، فراقه أشعره بموت أمه ولم يكن يعلم أن الذي سيموت هو، وأن القدر سخّر لأمه رؤياه.
ولا ندري أسبقت أمه الوصول إلى أهله، أم سبق حسن الوصول حسن إلى ربه؟
قُهرت أمُ حسن وقُهرت حمص والريفُ الدمشقي ودرعا، لتعيش تحت وطأة الأسد مجددا وتشهد رقصات الموالين على أنقاضها ورفاة أهلها، محتفلين بسنوات من الذل جديدة.